وضع داكن
02-08-2025
Logo
الدرس : 68 - سورة النساء - تفسير الآيات 171-175 الغلو في الدين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم عَلِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، وأرِنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الابتعاد عن الغلوّ في الدين:


أيُّها الإخوة المؤمنون: مع الدرس الثامن والستين من دروس سورة النساء، ومع الآية الواحدة والسبعين بعد المئة، وهي قوله تعالى: 

﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)﴾

[ سورة النساء ]

أيُّها الإخوة الكرام: الله جلَّ جلاله أنزل الدين من عنده على أنبياءٍ كرام ورُسُلٍ عِظام، الله جلَّ جلاله بَعثَ بأنبيائه وأنزل معهم الكتاب، لكن الغلوَّ في الدين إمّا أن نُكذِّب، وإمّا أن نُبالغ، والاعتدال بين التكذيب والمُبالغة، فالحقُّ جلَّ جلاله يأمُر أهل الكتاب ألا يغلوا في دينهم، والغلوّ هو الخروج عن حدِّ الاعتدال في الحُكم، لأنَّ كل شيءٍ له وسطٌ وطرَفان، وعندما يُمسك شخصٌ طرفاً نطلب منه ألا يكون هناك إفراطٌ أو تفريط، مشكلتنا نحن المسلمين في الإفراط والتفريط، أي في الغلوّ، أي الخروج عن حدّ الاعتدال، هذا الدين العظيم دين الفِطرة، دينٌ وسطي، دينٌ متوازن، فأهل الكتاب غَلوا في دينهم، وقالوا عن السيد المسيح غير الحقّ، فالله عزَّ وجل يقول: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) .

الحقّ ثابت أمّا الباطل فزائل:


الشجاعةُ وسطٌ بين التهوُّر وبين الجنون، الكرم وسطٌ بين إتلاف المال وبين التقتير، كل شيءٍ كماله في الوسط، وكل شيءٍ اعتداله في الوسط، وكل حُكمٍ أو موقفٍ أو سلوكٍ يتجاوز الحدَّ المُعتدل إلى التطرُّف فهوغلوٌ في الدين، وموضوع الغلوّ في الدين موضوعٌ طويلٌ وطويل (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) .
أيُّها الإخوة: وقع أهل الكتاب في هذا المأزَق، فلم يأخذوا الأمر بالاعتدال دون إفراطٍ أو تفريط، لقد كفر اليهود بعيسى، واتَّهموا السيدة مريم بالزِنا، وهذا غلوٌ في الكره، وغالى الطرف الآخر في الحُبِ لسيدنا عيسى، فقالوا: إنه إلهٌ، أو ابن إلهٍ، أو ثالث ثلاثة، وهذا غلوٌ في الحب، غلوٌ في الكره، فكفروا بسيدنا عيسى، واتَّهموا أمه السيدة العذراء بالزِنا، وهناك غلوٌ في الحُبِ، فجعلوه إلهاً أو ابن إلهٍ أو ثالث ثلاثة (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)
أيُّها الإخوة: الله جلَّ جلاله يطلب منهم أن يقولوا الحقّ، والحقّ الشيء الثابت، الشيء المُستقر، الشيء الذي لا يتزعزع، والباطل الشيء الزائل، وما من شيءٍ تمَّ في الأرض من آدم إلى يوم القيامة وكان باطلاً إلا زال، حتى لو كان تشريعاً أرضياً فيه غلوّ، بعد حينٍ يُلغى هذا القرار، بعد حينٍ يُعدَّل لأنَّ الحقّ من شأنه الثبوت، والباطل من شأنه الزوال.

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)﴾

[ سورة الإسراء ]

 وزهوق كما يقول علماء اللغة صيغة مُبالغة، وصيغة المُبالغة تعني مبالغةً في الكمِّ أو في النوع،  يعني أكبر باطل لو أنه يملك من السلاح النووي ما يدمِّر القارات الخمس خمس مرات، تداعى من الداخل وتلاشى (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) ومليون باطل مصيره إلى الزوال، وكم من فرقةٍ ضالةٍ ظهرت وتلاشت، أي تصرُّف، أي فئة، أي جماعة، أي نظام أساسه باطل هو إلى زوال، أمّا الحقّ فهو ثابت.

من كان مع الحق فهو مع الله ومن كان مع الله كان الله معه:


أيُّها الإخوة: لو أنك كنت موفَّقاً وكنت مع الحقّ فأنت مع الله، ومن كان مع الله كان الله معه، أنت مع الثبوت لا الزوال، يوجد نعمة ينعُم بها المسلمون لا يعرفها إلا غير المسلمين! مهما امتدَّ بك العمر فلن تظهر حقيقةٌ تنقُض القرآن الكريم، ولن يظهر فكرٌ يُسفِّه هذا الدين، فأنت مُطمئن، كلما امتدَّ بك العمر تتأكد أنك مع الحقّ، وعلى الحقِّ المبين.

﴿ وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ۗ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)﴾

[ سورة الإسراء ]

فأنت مع الثوابت التي لا تتغير، في تاريخ المسلمين كم من فئةٍ ضالةٍ ظهرت واحتلت بلاداً شاسعةً ثم اضمحلَّت؟!! (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) .
وهذه القوة التي تتربع على عرش العالم أيضاً ليست مع الحقّ، هي تُحقِّق مصالحها المادية على حساب حقوق الشعوب، إذاً مصيرها إلى زوال، وتأكدوا وهذا من قوانين الله عزَّ وجل، أنَّ جهةً ما، مهما تكن قويةً نجاح خططها على المدى البعيد لا يتناقض مع عدالة الله فحسب، بل يتناقض مع وجود الله، والمؤمن متفائل ولا سيما بهذه الآية (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) .

ديننا هو دين الوسطية والاعتدال:


أيُّها الإخوة: الحقّ هو الشيء الثابت لا يحتاج إلى أن تكذب له، ولا أن تكذب عليه، ولا أن تُبالغ فيه، ولا أن تُبالغ في تسّفيه خصومه، ولا أن تُكبِّر رجاله، ولا أن تُصغِّرهم، والحقّ لا يُستحيا به، ولا يخشى البحث، لأنه حقّ، والله هو الحقّ.
كنت أذكُر لكم مِراراً قصة رئيس وزراء فرنسي انتحر، أكثر من مئة صحفي درس سبب انتحاره فلم يجد سبباً وجيهاً! من أرقى أُسر باريس، ولم يتورط في فضيحةٍ ماليةٍ أو جنسية، وبلغ من العمر سبعين عاماً، وله سمعةٌ طيبة، فلماذا انتحر؟ إلا أنَّ صحفياً واحداً وضع يده على الحقيقة، هذا كان يعتنق مذهَب لا إله، أمضى بهذا المذهَب سبعين عاماً ثم اكتشف أنَّ هذا المذهب باطلٌ في باطل! احتقر نفسه.
المسلم مهما امتدَّ به العمر يشعر أنَّ أحداث العالم والتقدُّم العلمي لا يزيده إلا إيماناً بكتابه، وبمنهج رسوله، وبهذا الدين العظيم، هذه نعمة، ليس في حياة المؤمن مفاجآت، ولا كشفٌ علمي ينقض دينه، وليس في حياة المؤمن كشفٌ علمي يُسفِّه تعاليم دينه، لذلك هذه نعمةٌ كُبرى، أننا مع الحقِّ إن شاء الله.
النبي عليه الصلاة والسلام جاء بهذا المنهج الواقعي، بهذا المنهج الذي يتوافق مع فطرة الإنسان، بهذا المنهج المُعتدل، بهذا المنهج الوسطي، فالغلوّ هو جنوحٌ نحو الإفراط أو جنوحٌ نحو التفريط.
لنأتي إلى عالمنا الإسلامي، الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه قصته تقترب من قصة سيدنا عيسى عليه السلام، فالخوارج كفَّروه، وبعض المُتشيّعين له ألَّهوه، من التكفير إلى التأليه، لذلك المُسرفون جعلوه نبياً، وبعض ولاتِهم جعلوه إلهاً، وبعضهم جعله كافراً، كل هذه الأوصاف ليست متوازنة، وليست طبيعية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:

(( فيكَ مثلٌ مِنْ عيسى أبغضَتْه اليهودُ حتى بَهَتوا أمَّه وأحبَّتْه النصارى حتى أنزلوه بالمنزلةِ التي ليستْ بهِ ثم قال: يَهلَكُ فيَّ رجلان محبٌّ مُفرِطٌ يُقرِّظُني بما ليس فيَّ ومُبغضٌ يحملُه شَنَآني على أن يَبْهتني. ))

[ أخرجه النسائي وأبو يعلى ]

سيدنا علي رضي الله عنه قال: << يَهلَكُ فيَّ رجلان محبٌّ مُفرِطٌ يُقرِّظُني بما ليس فيَّ، ومُبغضٌ يحملُه شَنَآني على أن يَبْهتني، ألا إني لست بنبي، ولا يوحى إليَّ، ولكنني أعمل بكتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحقٌّ عليكم طاعتي فيما أحببتم أو كرهتم>> .
حلُّنا في الوسطية والاعتدال، لا نريد دعوةً تنطح، ولا دعوةً تشطح، هذا غلط، وهذا غلط، هذا غلوّ، وهذا غلوّ، كيف جاء النبي مُعتدلاً؟ كيف جاءت دعوة النبي متوازنةً في الجانب الاعتقادي، متوازنةً في الجانب السلوكي، متوازنةً في الجانب الجمالي.
أيُّها الإخوة الكرام: هذا هو الغلوّ، الذين كرهوه اتَّهموا أُمه السيدة مريم بالزِنا، ولم يقبلوا نبوُّته، والذين أحبّوه أشكل عليهم أنه بلا أب، فجعلوه إلهاً أو ابن الإله أو ثالث ثلاثة، والله عزَّ وجل يقول: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) .

كل شيءٍ خلقه الله له سبب فنظام السببية نظام أساسي في معرفة الله:


أيُّها الإخوة: شاءت حِكمة الله أن يجعل من نواميس خَلقه أنَّ لكل شيءٍ سبباً، لكن علماء العقيدة يقولون: إن تلازم السبب مع المُسبِّب ليس تلازماً خَلقي ولكن تلازم توافق فقط! السبب لا يخلُق النتيجة عند علماء التوحيد ولكنه يرافق النتيجة، شاءت حكمة الله أن يكون لكل شيءٍ سبب، الآية الكريمة:

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)﴾

[ سورة الكهف ]

كل شيءٍ خلقه الله له سبب، أن تأكل هذه الفاكهة سببها بذرةٌ ألقيتها في الأرض، واعتنيت بها حتى نبتت، أن تشرب كأس ماءٍ له سبب، حفرت بئراً واستخرجت ماءً، أن ترى لك ابناً في البيت تحتاج إلى زوجةٍ وإلى زواج، فمن أجل أن نُفكِّر في هذا النظام نظام السببية أن لكل شيءٍ سبباً، فإذا سِرنا في سلسلةٍ منطقية، هذه الدجاجة من بيضة، وهذه البيضة من دجاجة نصل في النهاية إلى بيضةٍ أو دجاجة ليس قبلها شيء، إذاً من خَلَقها؟ إنه الله.
كأنَّ الله أرادنا أن ننتقل بلطفٍ من هذه الأسباب المادية إلى مُسبِّب الأسباب وهو الله، إذاً طريقةً رائعة في الوصول إلى الله، لو أنَّ الله خلق الأشياء بلا أسباب، لا تقتنع أنَّ لهذا الكون إلهاً، كما أنَّ هذه الأشياء لا أسباب لها، كذلك هذا الكون ليس له سبب، فنظام السببية نظامٌ أساسيٌ في معرفة الله، لكن أشخاصاً كثيرين يؤلِّهون الأسباب، يعدّونها خالقةً للنتائج، يعتمدون عليها، يستغنوا بها عن الله عزَّ وجل، إذا كان هذا الغلوّ في تعظيم الأسباب، يأتي الله جلَّ جلاله بحادثةٍ من دون سبب، بحسب قوانين الخَلق، لا بُدَّ للإنسان من أُمٍ وأب، فالسيد المسيح جاء من أُمٍ بلا أب، أُلغي السبب مباشرةً من الله عزَّ وجل، هذا الإشكال أراد الله ألا نؤلِّه الأسباب، أراد الله جلَّ جلاله ألا نعتقد أنَّ السبب وحده خالقُ النتيجة، أرادنا أن نعتقد أن الله هو الخالق، لكن من خلال سبب، فالسبب واسطة وليس هو الخالق. 

في خلق السيد المسيح أراد الله أن ينقلنا من تأليه الأسباب إلى تأليه خالق الأكوان:


مثلاً قد يأتي شابٌّ وشابَّة في ريعان الشباب لا يُنجبان، وهذا السيد المسيح يأتي من أُمٍ بلا أب، في الحالة الأولى تعطَّل السبب لم يُفعَّل، في الحالة الثانية أُلغي السبب كُليَّاً، أراد الله عزَّ وجل أن ينقلنا من تأليه الأسباب إلى تأليه خالق الأكوان عن طريق هذه المعجزات، فالسبب إمّا أن يُعطَّل وإمّا أن يُلغى إنقاذاً للتوحيد، ويقاس على ذلك: 
أنَّ سيدنا عمر رضي الله عنه عزل سيدنا خالد، شيءٌ عجيب، هو قمةٌ في فنون القتال وتوفيق الله عزَّ وجل، وخاض مئة معركةٍ أو زُهاءها، ولم يُغلَب في معركةٍ واحدة، فلماذا عزله عمر؟! جاءه وقال له: يا أمير المؤمنين لماذا عزلتني؟ قال: والله إني أُحبُك، سأله ثانيةً: لماذا عزلتني؟ قال: والله إني أُحبُك، سأله ثالثةً لمَ عزلتني؟ قال له: والله ما عزلتك يا ابن الوليد إلا مخافة أن يُفتَّتن الناس بكَ لكثرة ما أبليت في سبيل الله، سيدنا عُمر خاف على التوحيد، توهَّم أصحاب النبي ومن تَبِعهم أنه ما من معركةٍ يقودها خالد إلا انتصروا بها، فكأنهم رأوا أن النصر يأتي من عند خالد، سيدنا عُمر عزله وبقي النصر مستمراً من ربِّ خالد، فيقول علماء التوحيد: هذا عزلٌ أراد الخليفة الراشد عُمر بن الخطاب أن يُعزِّز معاني التوحيد عند الصحابة الكرام، فلذلك الله عزَّ وجل حينما جعل هذا النبي الكريم بلا أب، يعني أنَّ الله هو الخالق، قد نُخلَق من أُمٍ وأب، لكن مَن الذي خلقنا؟ الله جلَّ جلاله، والله قادرٌ أن يخلق إنساناً من دون أب، بل وقادرٌ أن يخلق إنساناً من دون أُمٍ ولا أب، سيدنا آدم، لذلك يقول الله عزَّ وجل:

﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)﴾

[ سورة آل عمران ]


الحكمة من ذكر اسم السيدة مريم في القرآن الكريم:


أمّا قول الله عزَّ وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) طبعاً بالمناسبة لم يُذكَر في القرآن الكريم كله إلا اسم امرأةٍ واحدة "مريم" تأكيداً أنَّ هذا النبي الكريم هو عيسى بن مريم (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ) هويته بَشَر، هويته رسول (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) صار خلق السيد المسيح يحتاج لشيئين:

﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)﴾

[ سورة التحريم ]

(وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ) كائنٌ مُهيأ، وكلمة كُن فيكون، هذا هو السيد المسيح! (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) يعني هيأَها وألقى إليها كلمته كُن فيكون.

الله عزَّ وجل له رسل وليس له أبناء:


(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) الله عزَّ وجل له رسُل وليس له أبناء (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ) .

﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)﴾

[ سورة المائدة ]

سيدنا آدم قال:

﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)﴾

[ سورة الحجر ]

يعني شكَّلته من ترابٍ على شكلِ إنسانٍ (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) ثمَّ ألقى إليه كلمته كُن فيكون، معنى جسدٌ مُهيئٌ لاستقبال كلمة الله، روحٌ من الله (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ) هذا هو السيد المسيح، لكن أن تقول كلاماً عن بدء الخليقة: أنَّ الإنسان الأول هو قردٌ تطوَّر، هذا مخالفٌ لما في القرآن الكريم، كيف ردَّ الله عليهم؟ قال:

﴿ مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)﴾

[ سورة الكهف ]


لم يشهد إنسان بدء الخليقة لذلك لا يستطيع أحد أن ينقض كلام الله عزَّ  وجل:


لو فرضنا للتقريب: رجُلٌ اشترى محلاً تجارياً في أحد أسواق دمشق، بعد خمسين عاماً جلس في مجلسٍ، طبعاً تزوَّج بعدما اشترى المحل بعشرين عاماً، وأنجب مولوداً، ابنه إلى جانبه في المجلس، قال: هذا المحل اشتريته بخمسة آلاف ليرة، قال له ابنه: لا يا أبتِ، قال له: وهل كنت أنت وقتها؟! انتهى الأمر.
(مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) مَن كان مع بدء الخليقة حتى ينقض كلام الله عزَّ وجل؟ (مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ) فإذا أخبر الله أنَّ هذه البشرية بدأت من آدم وحواء، فلا ينبغي أن نعتقد كما يقول مَن يؤمن بنظرية داروين، تلك النظرية التي أرادت أن تضرِب الدين في أصله، خطأ داروين ليس خطأً علمياً بل كان خطأً أخلاقياً، أراد تحطيم الكنيسة، شيءٌ مفترى، ويوجد لمن شاء أدلة علمية قاطعة وبيّنة ومُدعَّمة بالأدلة من عندهم، أنَّ هذه النظرية من أصلها باطل.
لكن الحقيقة أنَّ الإنسان حينما ينحرف يختل توازنه، فكيف يُحقِّق توازناً جديداً؟ لا بُدَّ من أن يعتقد عقيدةً تُغطي انحرافه، أمّا إذا أراد أن يكون مجرماً، ويقتل مئات الملايين، اثنان وأربعين مليون مسلم قتلوا في بلدٍ كبير، يرفع شعار لا إله، إذا أراد أن يفعل الإنسان كل أنواع الجرائم يحتاج لأي عقيدة؟ يحتاج إلى الإلحاد، وكيف يُلحِد؟ لا بُدَّ من أن يأتي بنظريةٍ علميةٍ تُبطِل ما في الكتُب المُقدَّسة من رواية بدء الخليقة.
هذا الذي حدث، علماء يهود أرادوا تحطيم الكنيسة فجاءوا بهذه النظرية، والآن ثبتَ بُطلانها من عندهم وبأدلةٍ قطعيةٍ، لكن الذي يتمسَّك بها هو الذي يتمسَّك بعقيدةٍ تُغطّي كل جرائمه، هذا هو الواقع.

في خلق السيد المسيح غاب الذَكَر أمّا في خلق سيدنا آدم فغاب الذَكَر والأنثى: 


كلمة روحٌ منه: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) الإشكال حصل أنهم فهموا أنه روحٌ منه، أي بعضٌ منه، كيف نَرُدّ على هذه الشُبهة؟ قال الله عزَّ وجل: 

﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾

[ سورة الجاثية ]

هل يُعد الجبل ابن الله؟! مستحيل، لو أردنا أن نقول كلمة منه: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ) .
 (إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) في خَلق السيد المسيح غاب عنصر الذكورة، لا يوجد رجُل في حياة السيدة مريم، أمّا في خَلق سيدنا آدم فغاب عنصر الذكورة والأنوثة، بلا أب وبلا أُم، والآية صريحةٌ في ذلك: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) .

معنى التسوية:


بعضهم يقول: مرةً ورد أن سيدنا آدم خُلِق من تراب، ومرةً من ماء، ومرةً من طين، ومرةً من حمأٍ مسنون، ومرةً من صلصالٍ كالفخَّار، يا أخي هذا تناقضٌ في القرآن، هكذا يقول أعداء القرآن، القرآن لم يأتِ بخبرٍ واحدٍ، أتى بأخبارٍ مُتعددةٍ، فمثلاً أصل الخَلق من ماء، مزج معه التراب فصار طيناً، ثم تخمَّر الطين فصار حمأً مسنوناً، ثم صار صلصالاً، مراحل تطوُّر الماء والتراب، (ماء، تراب، طين، حمأ مسنون، صلصال) بالتسلسل، لا يوجد تناقض أبداً (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ) أي شكَّله على شكل إنسانٍ، هذه التسوية.

﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2)﴾

[ سورة الأعلى ]

أنت يدك مُسوّاة، لو لم يكن بها مِفصلٌ لا يمكن أن تأكل إلا كما تأكل القطة، تنبطح فوق الصحن، وتلحس ما في الصحن، لا يوجد طريقةٌ ثانية، بهذا المفصل كرَّمك الله عزَّ وجل، يوجد قصص لا تُعد ولا تُحصى عن التسوية (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ) .
لو أنَّ عين الإنسان في ظهره مثلاً، غير مناسبة، لو كان له عينٌ واحدة لا يرى البُعد الثالث، لو كان له أُذنٌ واحدة لا يسمع جهة الصوت، لو أنه إذا نام تعطلت أفعاله كلها لا ينام، ينام فيموت، لكن هناك أفعالٌ لا إرادية، التنفس لا إرادي، ضربات القلب لا إرادية، عمل الأجهزة لا إرادي، وأنت نائم دون أن تشعر يمتلئ فمُك لُعاباً، يذهب أمر للدماغ، الُّلعاب أصبح كثيراً، فالدماغ يُعطي أمراً إلى لسان المزمار، فيفتح طريق المريء، فينزل الُّلعاب، ثم يُغلَق طريق المريء لمتابعة التنفس، وأنت نائم! خلق الإنسان شيءٌ عجيبٌ جداً.
قال: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) هذا أصل خلق آدم! نفخُ روحٍ ثم إلقاء كلمةٍ، وهذا أصل خلق السيد المسيح، نفخ روحٍ وإلقاء كلمةٍ، كُن فيكون، زُل فيزول، أمر الله كلمةٌ واحدة، ويا مَن أمره بين الكاف والنون، إذا قلت: كُن فيها نصف ثانية، أمر الله لا يوجد زمن أبداً، كُن فيكون، زُل فيزول.

أعلى مقام يبلغه الإنسان أن يكون عبداً لله:


أيُّها الإخوة الكرام: ثم يقول الله عزَّ وجل:

﴿ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ۚ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)﴾

[ سورة النساء ]

أعلى مقام يبلغه إنسان أن يكون عبداً لله:

﴿ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10)﴾

[ سورة النجم ]

 وهو في سدرة المُنتهى:

﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)﴾

[ سورة الجن ]

إذاً عبد الله أعلى مرتبةٍ ينالها الإنسان، وكلما ازددت عبوديةً لله عزَّ وجل رفعك الله:

﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ  ذِكْرَكَ (4)﴾

[ سورة الشرح ]

(لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ۚ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا) من لوازم الإنسان أنه عبدٌ لله، نبياً كان أو غير نبي.

﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)﴾

[ سورة النساء ]

أنت مُخيَّر، وهذا الحقّ واضحٌ كالشمس. 

رسالة النبي عليه الصلاة والسلام خاتمة وهي لكل البشر:


﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (174)﴾

[ سورة النساء ]

الآن كلامٌ موجهٌ لكل أهل الأرض، لأنَّ رسالة النبي عليه الصلاة والسلام خاتمة، ولكل البشر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) يعني كلامٌ واضحٌ قطعيٌ مُؤيَدٌ بالأدلة والحُجج، يُلغي كل الاختلافات السابقة، وكل التُرهات السابقة، وكل الخصومات السابقة.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) القرآن نور، أحياناً الإنسان يحمل ورقةً فيها تعليمات تشغيل آلة، كأن هذه التعليمات نورٌ يكشف له أساليب التشغيل "فالعلم نور" فحينما يأتي القرآن الكريم، ويحسِم القضايا الخلافية السابقة بين الأديان، هذا حسمٌ نهائي، هذا الكلام من عند الله، ودليله إعجازه، وتحدثت في درسٍ سابقٍ كيف أنَّ الله يشهَد للناس أنَّ هذا القرآن كلامه، فالقرآن معه دليله، ودليله تحقُّق وعده ووعيده في الدنيا، ودليله إعجازه، دليلان قويان يرقيان لمستوى الدليل القطعي، فهذا القرآن إعجازه دليل كلام الله عزَّ وجل، ووقوع وعده ووعيده في الدنيا، دليل أنه كلام الله عزَّ وجل، فهذا فيه برهانٌ على ما أورد القرآن من قصصٍ لأنبياء الله كما هي دون غلوٍّ، ودون إفراطٍ وتفريط (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) .

﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (175)﴾

[ سورة النساء ]

هذا الذي جاء في هذه السورة عن قصة السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وهذا كلام الله حقّ أنَّى له أن يكون معه باطل. 

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور